وقال عوف بن مالك صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة ، فَحَفِظْتُ من دعائه وهو يقول : اللهم اغفر له وارحمه ، وعافه واعف عنه ، وأكرِم نُزَله ، ووسِّع مُدْخله ، واغسله بالماء والثلج والبرد ، ونَقِّه من الخطايا كما نَقّيت الثوب الأبيض من الدنس ، وأبْدِلْه دارا خيرا من داره ، وأهلا خيرا من أهله ، وزوجا خيرا من زوجه ، وأدخله الجنة ، وأعذه من عذاب القبر ، أو من عذاب النار . قال : حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت . رواه مسلم .وعن زيد بن ثابت قال : بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلة له ونحن معه ، إذ حَادَتْ به فكادت تُلقيه ، وإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة ، فقال : مَنْ يعرف أصحاب هذه الأقبر ؟ فقال : رجل أنا . قال : فمتى مات هؤلاء ؟ قال : ماتوا في الإشراك ، فقال : إن هذه الأمة تُبتلى في قبورها ، فلولا أن لا تَدَافنوا لدعوتُ الله أن يُسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه ، ثم أقبل علينا بوجهه ، فقال : تعوّذوا بالله من عذاب النار ، قالوا : نعوذ بالله من عذاب النار ، فقال : تعوّذوا بالله من عذاب القبر . قالوا : نعوذ بالله من عذاب القبر . رواه مسلم .
إذا عُلِمَ هذا فإن ما يتعلّق بالقبر من عرض وفتنة وسؤال ، وعذاب ونعيم ، هو من عِلْم الغيب الذي لا نَعْلَم كيفيّته ، ويجب علينا الإيمان به والتسليم فيه لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنؤمن به من غير سؤال عن كيفيّته ، وكيف يقع ؟ لأن عقولَنا قاصرة عن إدراك ذاتها ، فكيف تُدرك ما حُجِبَ عنها ؟
قال ابن القيم : أحاديث عذاب القبر ومساءلة منكر ونكير كثيرة متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال ابن أبي العز : وقد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلا ، وسؤال الملكين ، فيجب اعتقاد ثبوت ذلك ، والإيمان به ، ولا نتكلّم في كيفيته ، إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته لكونه لا عَهْـَد له به في هـذه الدار ، والشرع لا يأتي بما تُحِيلة العقول ، ولكنه قد يأتي بما تَحَار فيه العقول . اهـ .
وعذاب القبر ليس مما يستحيل عقلاً ، ومن ذلك :
1 – أن النائم قد يرى في منامه أنه يُنعّم ، وإلى جواره آخر يرى أنه يعذّب ، ولا يشعر أحدهما بما يجري لصاحبه ، كما أنه لا يُدرِك ذلك سوى صاحب المنام .
قال ابن القيم : ما أخبر به الرسول من عذاب القبر ونعيمه وضيقه وسعته وضمِّه وكونه حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة مطابق للعقل وأنه حق لا مِرْيَة فيه ، وأن من أشكل عليه ذلك فمن سوء فهمه وقِلّة علمه أُتيَ ، كما قيل :
وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم
2 – أن العذاب يُمكن أن يقع على الأجساد حتى ولو أرِمَتْ وتبعثرت وتناثرت ، ويدلّ على ذلك ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(لا يَ أسْرَف رجل على نفسه ، فلما حضره الموت أوصى بنيه ، فقال : إذا أنا متّ فاحرقوني ، ثم اسحقوني ، ثم أذروني في الريح في البحر ، فوالله لئن قَدَرَ عليّ ربي ليعذبني عذابا ما عذبه به أحدا ، قال : ففعلوا ذلك به ، فأمَرَ الله البَرّ فَجَمَع ما فيه ، وأمَر البحر فجَمَع ما فيه ، فإذا هو قائم ، فقال له : ما حملك على ما صنعت ؟ فقال : خشيتك يا رب ، أو قال مخافتك ، فغُفِر له بذلك .
فالذي جمَعَ أجزاء جسمه المتحللة في الهواء والماء ، قادر على أن يوقع العذاب على كلّ ذرّة من جسمه في أي مكان كان ، ذلك أنه (عْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ) .
وقد تكلّم العلماء على هذه المسألة وضربوا لها الأمثلة بالذي يموت غرقا في الماء ، أو حرقا بالنار ، بل حتى المصلوب ، ومن أكلته السباع ، إن كان ممن استحق عذاب القبر ، وأراد الله عذابه فإنه سبحانه لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء .
وأما الروح فلا إشكال في وقع العذاب عليها ؛ لأنها باقية .
3 – أن عذاب القبر مما تُدركه المخلوقات غير الإنس والجن ، لقوله صلى الله عليه وسلم عن الكافر أو المنافق : ثم يُضرب بِمِطرقة من حديد بين أُذنيه ، فيصيحُ صيحةً يَسمعها من يَلِيْه إلا الثقلين . رواه البخاري وقد تقدم .
وقال صلى الله عليه وسلم عن أهل القبور : إنهم يُعذّبون عذاباً تسمعه البهائم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ولهذا السبب يذهب الناس بِدَوابِّهم اذا مُغِلَت الى قبور اليهود والنصارى والمنافقين كالاسماعيلية والنصيرية وسائر القرامطة من بنى عبيد وغيرهم الذين بأرض مصر والشام وغيرهما ، فإن أهل الخيل يقصدون قبورهم لذلك ، كما يقصدون قبور اليهود والنصارى ، والجهال تَظن أنهم من ذرية فاطمة ، وأنهم من أولياء الله ، وإنما هو من هذا القبيل ، فقد قيل : إن الخيل اذا سمعت عذاب القبر حصلت لها من الحرارة ما يَذهب بالمغل . اهـ .
وقد حدّثني بعض المسلمين الذين يُقيمون في بلاد الكفار ، أن الكفار الذين يدفنون موتاهم بالتوابيت مدة معلومة ثم يجمعون عظامهم بعد ذلك في مكان واحد ، ثم تُستخدم التوابيت في دفن آخرين ، وأنهم يجدون في التوابيت آثار أظفار وخدوش على جدران التوابيت ، وهم يعتقدون أن سبب ذلك أن من الأموات من دُفِنَ حيّاً !
وإنما هو من عذاب القبر ، ولعل قوله تعالى : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) يدلّ عليه .
4 - أن سماع عذاب القبر ليس مستحيلاً ، لقوله صلى الله عليه وسلم : فلولا أن لا تَدَافنوا لدعوت الله أن يُسمِعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه . رواه مسلم ، وقد تقدّم .
فما تَرَك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سؤال الله أن يُسمع هذه الأمة من عذاب القبر إلا خشية ألا يتدافنوا . ولما كانت الحكمة مُنتفية في حق البهائم أُسْمِعت عذاب القبر .
وأما أحوال الناس في البرزخ فَعَلَى أنواع :
النوع الأول : وهم أعلى الناس منـزلة في قبورهم ، وهم الأنبياء ، لقوله صلى الله عليه وسلم : إن الله حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء .
النوع الثاني : الشهداء ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما سُئل : ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد ؟ قال : كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة . أي لما كان يُقاتِل . رواه النسائي وهو حديث صحيح
ولما حَفَر جابر بن عبد الله قبر أبيه ، وكان من قُتِل يوم أحد . قال : فاستخرجته بعد ستة أشهر فإذا هو كيوم وضعته غير هُنيّةٍ في أُذنه . رواه البخاري .
وهؤلاء – أي الشهداء – يُنعّمون في قبورهم ، ويأمنون فتنة القبر ، وسؤال المَلَكين .
ويلحق بهذا النوع من يأمن فتنة القبر وعذاب القبر ، وهو من مات مرابطا ، ومن مات ليلة الجمعة أو يوم الجمعة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : من مات مرابطا في سبيل الله أُجري عليه أجر عمله الصالح الذي كان يعمل ، وأُجري عليه رزقه ، وأمِن من الفتان ، وبعثه الله يوم القيامة آمنا من الفزع . رواه ابن ماجه وغيره ، وهو حديث صحيح .
وقال عليه الصلاة والسلام : من مات مرابطاً في سبيل الله أمّنَه الله من فتنة القبر .
وكذلك من يموت ليلة الجمعة أو يوم الجمعة ، فإنه يأمن فتنة القبر ، فمن مات كذلك فإن هذا من المُبشِّرات له ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر . رواه الإمام أحمد والترمذي ، وهو حديث صحيح .
النوع الثالث : مَنْ يُنعّم في قبره ، وإن كان يتعرّض للسؤال والامتحان ، وهو المؤمن الذي يفتح له باب من الجنة وباب من النار ، فيقال هذا كان منزلك لو عصيت الله أبدلك الله به هذا ، فإذا رأى ما في الجنة قال : رب عجل قيام الساعة كيما أرجع إلى أهلي ومالي ، فيقال له : اسكن . رواه الإمام أحمد عن البراء بن عازب .
ويُقال له : نَم نوم العروس .
النوع الرابع : من يُعذّب مدة ثم ينقطع عنه العذاب ، وهو عذاب بعض العُصاةِ الذين خفّت جرائمُهم ، فيُعذّب بحسب جُرمه ثم يُخفف عنه العذاب .
وهذا قد عدّه بعض العلماء من المكفِّرات العشر التي تُكفّر بها السيئات .
النوع الخامس : من عذابه دائم غير منقطع ، كما هو الحال في الكفار ، وكما تقدّم في حقّ آل فرعون ، فإنهم يُعرضون على النار صباح مساء .
وفي حديث البراء – وهو حديث طويل ، رواه الإمام أحمد وغيره – قال صلى الله عليه وسلم - في شأن الكافر أو المنافق - : ثم يُفتح له باب من النار ، ويُمْهَد له فِراش من النار .
وفيه : وإن الكافر - فذكر موته – ثم قال : وتُعاد روحه في جسده ، ويأتيه ملكان فيجلسانه ، فيقولان : من ربك ؟ فيقول هاه هاه هاه لا أدري ، فيقولان له : ما دينك ؟ فيقول هاه هاه لا أدري ، فيقولان : ما هذا الرجل الذي بُعِثَ فيكم ؟ فيقول : هاه هاه لا أدري ، فيُنادي منادٍ من السماء أنْ كَذَب ، فافِرشوه من النار ، وألبِسوه من النار ، وافتحوا له بابا إلى النار ، قال : فيأتيه من حرِّها وسمومها ، قال : ويُضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه - زاد في حديث جرير-قال : ثم يُقيِّض له أعمى أبكم معه مرزبةٌ من حديد لو ضُرب بها جبل لصار تُرابا ، قال : فيضربه بها ضربه يسمعها ما بين المشرق والمغرب إلا الثقلين ، فيصير ترابا ، قال : ثم تُعاد فيه الروح . رواه أحمد وأبو داود واللفظ له