تقرير حقيقة ، أيْ أن الحياة متعبة ، حياة فيها جهد ، لكي تأكل صحنًا من السلاطة تشتغل فيه ربع ساعة ، اغسل البندورة ، وقسمها ونقِّ البقدونس ، وافرمه ، وضع الليمون ، وأخرج البذور من الليمون ، وضع الملح ، وإلخ ... تحتاج إلى ربع ساعة من العمل ، فالحياة متعبة .
لكي تسكن في بيت مريح تشتغل أربعين عامًا في عمل مُضْنٍ ، ولكي تأخذ الشهادة ، ويقول الناس عنك : مثقف ، وتأخذ لك راتبًا لن يكفيك خمسة أيام ، تشتغل ليلاً ونهاراً ، وتظل عدة سنوات وأنت تدْرس في الجامعة ، وامتحانات ، وإرهاق أعصاب ، وتوتر ، وسؤال يأتي لم تتوقعه ، وأحياناً لم تنم الليل ، وأحياناً يصيبك ألم لا يحتمل ، لكي تأخذ الشهادة المتواضعة جداً ..
.. لكن ..
إذا استيقظ شخص قبل الفجر ، وصلّى قيام الليل ، ثم صلّى الصبح في جماعة ، واستمع إلى مجلس العلم ، وقرأ القرآن ، وغضَّ بصره ، وأحسن إلى أمهِ وأبيهِ ، فإذا كان يسكنَّ في حيّ بعيد ، وأمه وأبوه يسكنان في المهاجرين ، وهو ساكن في المخيم ، ركب الحافلة الأولى ، ثم الثانية ليصل إليهما ، وزارهما وقالت له : اعمل كذا ، احضر لي الحاجة الفلانية ، هذا جهد شاق وليس سهلاً ، لكن ملاقيه ، اعتنيت بأولادك ، فأنت ملاقيه ، جلست مع زوجتك ساعات تنصحها وتفهمها حتى صلَّت أو حتى اقتنعت بالصلاة ، أو حتى تحجَّبت .. فملاقيه ، لك صديق أكرمته وعاونته حتى أتيت به إلى المسجد وسمع الدروس واستجاب ، وكان كل حين يسألك سؤالاً وأجبته عن أسئلته حتى استقام تماماً فهو في صحيفتك .. فملاقيه .. فلو ساهمت في إنشاء مسجد حتى توسَّع فاستراح فالمصلّون فيه فهذا الجهد .. فملاقيه .. و يمكن أن الأمر لو كان لك شخصياً لما بذلتَ مثل هذا الجهد ، فأحيانا تكون هناك عقبات كبيرة جداً ، هي فوق طاقة الإنسان ، فتنصرف عنه ، أما إذا كانت لله فإنك تندفع لتحقيقها ، وهذا الجهد لك .. فأنت ملاقيه .
جلست ساعة وربع الساعة في مجلس علم ، وقد ترى شخصاً جسمه متعباً أو متقدماً في السن ، ولا يستطيع أن يقعد ، وليس له محل يستند عليه ، لكنه قعد دون أن يستند .. فملاقيه ، هذا التعب ملاقيه .. كان بإمكانك أن تظل في بيتك قاعدًا على أريكة مريحة جداً ، وديوان عريض ، والوسائد على يمينك ويسارك ، مادًّا رجليك في راحة ..
يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه (سورة الانشقاق ، الآية "6")
فالدروس كلها في معرفة الله ، وفي فهم كتاب الله ، وفي الاستقامة ، وفي الكسب الحلال ، وفي العمل الصالح ، كلُّ هذه الجهود سوف تلاقيها ، وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا(49) ( سورة النساء : آية " 49 " )
كُلْ تمرةً ، ودقق في النواة تجد هناك خيطاً بين الفِلقتين ، هذا الخيط الصغير اسمه الفتيل ، وضع النواة على رأس لسانك ، وقم بتحريكها تجد لها نتوءًا صغيراً مثل رأس الدبوس ، هذا هو النقير ..
وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا(49) ( سورة النساء : آية " 49 " ) فكل شيء محسوب .
لكن عندما تجد إنسانًا يمشي في طريق الإيمان وهو متعب ، يريد أن يرضي أمه وأباه ، وأن يؤمِّن لزوجته حاجاتها ، وأن يعتني بأولاده ويربيهم ، ويرغب في أن يكون أولاده مؤمنين ، ويريد إتقان عمله حتى لا يشينه أمر وهو مسلم ، وأن يحضر في موعد الوظيفة تماماً ، وإذا كان مراجعًا من المراجعين يلبس زياً دينياً ، واضعاً لفة على رأسه فتأخر لخدمته ساعة بعد الدوام ، يعاني مشقة في دوامه ، وفي وظيفته ، وفي عمله ، وفي تجارته ، وفي بيته ، ومع أهله وأمه ، وله إخوة يسكنون في أماكن بعيدة ، فهذا الجهد الكبير كله محسوبٌ عند الله عزَّ وجل .
لكن الشقاء لا لهؤلاء ، ولكن لمن كان يسعى بجهدٍ كبير ، ويعرق ، وينصب ويكدح ، والنهاية إلى جهنَّم ، هذه هي المشكلة ، فالمؤمن رابح مهما بذل من جهد ، ومهما انضبط ، ومهما شعر أن في الحياة جهادًا ، لكن المربح معه ، فالحياة مؤقَّتة ، والسعادة أبدية ، والجنة سرمدية ، لكن إنسانًا آخر يهلك طوال حياته ، كشخص ذهب إلى دولة أجنبية ، وعمل في المطاعم ليلاً ونهاراً ، وترك عياله وأولاده إلى أن أسس مشروعاً ، وجمَّع ثرةً ، وأرسل أول مبلغ ، وطلب من أهله شراء أرض ، وفي السنة الثانية بعث مبلغاً آخر لتعمير الأرض ، ثم بعد ذلك أمدّهم بمال لفرش البيت وتأثيثه بالأثاث الفخم ، وطلب إنشاء حديقة .. وما زال في أوامره : اعملوا واتركوا .. وهو راجع بعد عشرين سنة من التعب ، وبعد أن أمَّن بيتاً فخماً وفرشه ، وفي أثناء تناوله الطعام في المطار ، وبعد أنْ أكل لقمتين من الطعام ، وفجأة سقط مفارقاً للحياة .. مسكين على هذه الحياة .. تعب مُضنٍ ، والثمرة صفر .
فالكدح موجود عند المؤمنين وعند غير المؤمنين ، لكن شتَّان بين المؤمنين وبين غير المؤمنين ، فالمؤمنون كدحهم مأجور ، وسوف يرون نتائج كدحهم ، لكن غير المؤمنين كدحهم إلى دمار ، وإلى لا شيء ، قال الله تعالى :
يا ايها الانسان انك كادح الى ربك كدحا فملاقيه *فاما من اوتي كتابه بيمينه*فسوف يحاسب حسابا يسيرا*(سورة الانشقاق : آية " 6 - 8 )أي أن ربنا عزَّ وجلَّ هكذا ترتيبه ، فإذا أخذ الإنسانُ كتابه بيمينه ، معنى ذلك أن أعماله صالحة وطيبة :
قال بعض المفسرين : إن ما في كتابه من أعمالٍ سيئة قبل الإسلام يعفو الله عنها ، وهذا معنى قوله تعالى :
أي الإسلام يَجُبُّ ما قبله ، الكتاب فيهِ كلِّ شيء ، لكن بعد أن أسلم ، وعرف الله عزَّ وجلَّ ، واستجاب له ، وتاب إليه توبةً نصوحًا ، فالذي وقع قبل هذا التاريخ يعفى عنه ... ولهذا فعَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ قَالَتْ قُلْتُ أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا قَالَ ذَلِكِ الْعَرْضُ *
(متفق عليه)
ولذلك قال الله عزَّ وجلَّ :
فاما من اوتي كتابه بيمينه*فسوف يحاسب حسابا يسيرا*( سورة الانشقاق : آية " 7 - 8 )
أي فيما سبق التوبة ، ما سبق الإسلام ، هذا معفو عنه ، بعد التوبة والإسلام أعماله كلَّها جيدة واستقامة وعمل صالح وتوبة ..
وينقلب الى اهله مسرورا*( سورة الانشقاق : آية " 9 " ) الآن إذا قرع الابن الباب ، وهو ناجح فقد يسيء بالبيت كثيرا من هجمته وفرحته ، فيريهم شهادته ، لا يترك إنسانًا إلا ويريها له ..
وينقلب الى اهله مسرورا*( سورة الانشقاق : آية " 9 " )
وإذا نقل الزوج إلى وظيفة أعلى فيدخل البيت بطريقة تأخذ العقل ، بشاشة ومرح ، وأين الأكل ، ويمزح مع زوجته ومع أولاده ، لأنه فرِح :
وينقلب الى اهله مسرورا*( سورة الانشقاق : آية " 9 " )
إذا اشترى صفقة رابحة ، أو باع بيعةً فيها ربح كبير ، أو حقق نجاحًا خارج البيت ، فدخوله البيتَ فيه سرور ، ويمكن لأهل البيت أنْ يروا أثر الفرحة عليه ، ويقولون : حتماً هناك شيء ، ليس هذا من عادته ، طليق ، عيناه زئبقيتان ، تلمعان ، ابتسامته عريضة ، مرح ،
وينقلب الى اهله مسرورا*( سورة الانشقاق : آية " 9 " ) نسأل الله أنْ يجعلنا من هؤلاء ، وكما قال سيدنا عليّ : "الغنى والفقرّ بعد العرض على الله ".
فإذا تمَّ العرض على الله ، وأُوتي الإنسان كتابه بيمينه ، وحوسب حساباً يسيرا ، عندئذٍ :
*وينقلب الى اهله مسرورا* ( سورة الانشقاق : آية " 9 " )
الآن تعب ، وبعده سرور ، وطِّن نفسك أن الحياة الدنيا مدرسة ، فيها جدّ ودوام ، وانتباه ووظائف ، وامتحانات ومذاكرات ، ومذاكرات فُجائية ، وفيها مذاكرات شفهية ، ووظائف كتابية ، وعقوبات ، وإخراج ، وتعهدات .. لكن بعد الشهادة يضع يده على المريض ثم يقول : عليك خمسون ليرة ، وتخطط مائة وخمسون ، مائتان ، عنده خمسون زبونًا ، معنى ذلك في اليوم يحصل على آلفين ليرة ، تساوي راتب الموظف في الشهر كلّه ، ويحصلها الطبيب في يوم واحد، لكنه عانى الكثير حتى أخذ الشهادة ، أخذ بكالوريوس ، وأخذ دكتوراه ، وأخذ بورد ، وتعب، ورجع إلى بلده ، فالإنسان إذا تعب الآن فغدًا..
*فسوف يحاسب حسابا يسيرا* وينقلب الى اهله مسرورا*( سورة الانشقاق : الآية " 8-9 " )
أيْ مِن السعادة أن يطرق الإنسان باب أهله ويحمل لهم خبرًا سارًّا جدًّا ، فإذا اشترى لزوجته قطعة من الحليّ تكرمةً لها فدخوله البيتَ لا يكون دخولاً عاديا ..
*وينقلب الى اهله مسرورا* واما من اوتي كتابه وراء ظهره*( سورة الانشقاق : الآية " 9 ، 10 " )
قال المفسرون : من شدة الخجل لا يستطيع أن ينظر للذي يعطيه الكتاب ..
وقال بعضهم الآخر : من شدة ازدرائه واحتقاره ، فهذا الذي يعطيه الكتاب لا يحب أن ينظر إلى وجهه ، هذا أو ذاك ، فإما خجلاً وإما ازدراءً .
واما من اوتي كتابه وراء ظهره * فسوف يدعوا ثبورا*( سورة الانشقاق : الآية "10 -11 " )
أي يقول : وا ثبوراهُ ، أي لقد هلكت ، الأعمق من ذلك أن هذا الذي يؤتَى كتابه وراء ظهره يدعو على نفسه أن يهلك .. وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ(77)( سورة الزخرف : آية " 77 " )
قال الشاعر المتنبي :
كفى بك داءً أنْ ترى الموت شافيَا وحسبُ المنايا أنْ يكُنَّ أمانــيَا
أي أنت في حالةٍ تتمنى معها الموت ، فما هي هذه الحالة ؟ إنها أشدُّ من الموت .
كفى بك داءً أنْ ترى الموت شافيَا وحسبُ المنايا أنْ يكُنَّ أمانــيَا
فهي حالةٌ لا تحتمل ، شيءٌ لا يطاق أن تكون في حالةٍ تتمنى معها الموت، وأن يكون الموت أحبَّ إليك من الحياة ، كذلك هذا الذي يؤتَى كتابه بشماله يوم القيامة يدعو ثبوراً ، يدعو ربّه أن يهلكه ، أي أن يفنيه، أن يدمره .
*واما من اوتي كتابه وراء ظهره* فسوف يدعوا ثبورا* ويصلى سعيرا*( سورة الانشقاق : الآية " 10 - 12 " ) لذلك قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام :
إنَّ العار ليلزم المرء يوم القيامة حتى يقول : يا ربي لإرسالُك بي إلى النار أهون عليَّ مما ألقى، وإنه ليعلم ما فيها من شدة العذاب *
(كنز العمال عن جابر)