[
تفسير سورة الصف
لحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور انفسنا ومن سيئات اعمالنا ومن يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له واشهد ان لا اله الله وحده لا شريك له واشهد ان محمدا عبده ورسوله اللهم صلى وسلم وبارك عليه وعلى اله وصحبه ومن تبعهم باحسان الى يوم الدين اما بعد
فان اصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى اله وسلم وشر الامور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ثم اننا على موعد الليلة مع تفسير سورة الصف وهي سورة مدنية شأنها شأن السورة المدنية بالاهتمام بالجانب التشريعي التربوي الاخلاقي
استفتحت الاية الكريمة بالانكار على الذين يقولون مالا يفعلون وبينت ان من احب الاعمال الى الله عز وجل الجهاد في سبيل الله ثم ذكرت موقف بني إسرائيل من انبياءهم عليهم السلام وخصت بالذكر موسى وعيسى بن مريم عليهما السلام ثم بينت ان اعداء الله يريدون ان يطفؤا نور الله بافواههم ويابى الله الا ان يتم نوره ولو كره الكافرون ثم دلت السورة الكريمة المؤمنين على تجارة رابحة مكسبها النجاة من النار و الفوز بالجنة وراس مالها الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله وختمت السورة الكريمة بامر المؤمنين ان يكونوا انصار الله كما قال عيسى بن مريم للحواريين { يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين } [الصف/14] هذا بايجاز عرض سريع لاهم ما تضمنته هذه السورة الكريمة سورة الصف من معاني والتي نعيش في رحابها ليلتنا هذه ان شاء الله تعالى فلنستمع اليها اولا قبل الخوض في تفاصيلها سائلين الله عز وجل ان ينجز لنا ما وعدنا حيث قال { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون } [الأعراف/204
اعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم [1 ]يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلوا[2 ] كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون [3] إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص [4] وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين [5] وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين [6] ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين [7] يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون [8] هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون [9] يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم [10] تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون [11]يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم [12] وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين [13] يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين
14]]
لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون [الحشر/21] ( الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد } [الأنعام/88
اخوة الاسلام جاء في سبب نزول هذه السورة الكريمة عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال (قعدنا نفر من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا لو ندري اي الاعمال احب الى الله عز وجل لعملناها فانزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم هذه السورة حتى ختمها فقراها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ختمها )فسبب نزول السورة ان الصحابة قالوا اي الاعمال احب الى الله وذلك من حرصهم على فعل ما يحبه الله تعالى فانزل الله تعالى هذه السورة الكريمة وفيها (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص)الصف4 وقد كان المؤمنون في مكة مستضعفين لا حول لهم ولا قوة وكانوا يتمنون ان لو أُذن لهم في الدفاع عن أنفسهم فلم يأذن الله تعالى لهم في مكة في الدفاع عن أنفسهم بل أمرهم بالصبر وان يُعدوا أنفسهم الاعداد الايماني حتى يتاهلوا لمواجهة عدوهم فلما هاجروا الى مكة وسألوا اي الاعمال أحب الى الله أنزل الله تعالى هذه السورة وفيها (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص)الصف 4 ثم لم يلبثوا الا يسيرا حتى نزل قول الله تعالى { كتب عليكم القتال وهو كره لكم } [البقرة/178] فلما كتب عليهم القتال شق ذلك على بعضهم ولو يَفُوا بما ألزموا أنفسهم به فانكر الله تبارك وتعالى عليهم في هذه السورة فقال { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون (2)كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون (3)} [الصف] وقال تعالى في سورة النساء { ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا } [النساء/77] وقوله تعالى { سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم } [الحديد/1] قد سبق تفسيره اكثر من مرة وقوله سبحانه { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون(2) كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون (3)} [الصف/]هو وان كان نزل في الانكار على الذين سئلوا عن احب الاعمال الى الله فلما اخبروا بانه الجهاد في سبيل الله ثقل عليهم ولم ينهضوا له والاية وان كانت نزلت في الانكار على الذين لم يجاهدوا الا انها عامة في النهي او في الانكارعلى كل من يخالف قوله فعله والواجب على المؤمن ان يوافق فعله قوله وان توافق سريرته علانيته وقد انكر الله تبارك وتعالى على الذين يقولون ما لا يفعلون في موضع اخر في قوله تعالى { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون } [البقرة/44] وفي الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام ان مخالفة الاقوال للافعال من موجبات النار فقال عليه الصلاة والسلام (يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق اقتاب بطنه فيدور حولها كما يدور الحمار في الرحى فياتيه الناس فيقولون يا فلان ما لك الم تكن تامرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر فيقول{ بلى كنت امركم بالمعروف ولا آتيه وانهاكم على المنكر وآتيه)فالواجب على الانسان ان يكون حريصا على ان توافق افعاله اقواله وان توافق سريرته علانيته ولا يجوز للانسان ان يقول امرا ثم يخالفه ولا ان يعد وعدا ثم لا يفي به فاية المنافق ثلاث اذا حدث كذب واذا وعد اخلف واذا ائتمن خان وفي الجيث عن عبد الله بن عامر رضي الله عنه قال (قالت لي امي تعالى اعطك ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا فقال ما اردتي ان تعطيه قالت ان اعطيه تمرة قال اما انك لو لم تعطه لكتبت عليك كذبة )فاذا قال الانسان لولده تعالى اعطك يجب ان يوافق قوله فعله ويعطيه ولا يجوز ان يقول له تعالى اعطك ثم لا يعطيه بل يجب اذا قال اعطك ان يعطيه { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون (2)كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون (3 )ان الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص(4)) ومن احب الاعمال الى الله عز وجل الجهاد في سبيل الله لاعلاء كلمة الله فقد سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن القتال في سبيل الله ما هو قال (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص(4) قال العلماء في قوله (كانهم بنيان مرصوص) هل هذا من اداب القتال وان على امير الجيش اذا هب للقتال ان يصف المجاهدون صفا واحدا متلاحما متراصفا كصفوف الصلاة فقالوا هذا مراد يعينه عند امكانه ومراد بمعناه عند تعسره و(مراد بعينه عند امكانه) كما وقع في غزوة بدر النبي عليه الصلاة والسلام صف الصحابة صفا واحدا لمواجهة العدو كانهم بنيان مرصوص لكن في هذه الازمنة وقد تطورت الاسلحة وتنوعت واختلفت وتنوع اسلوب القتال الان لا يصلح للمواجهة كانهم بنيان مرصوص فقالوا حينئذ يكون المراد صف القلوب وتراص القلوب فهم مع تفرقهم في خنادقهم كل في خندقه ال انهم على قلب رجل واحد مثلهم في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد كما قال النبي عليه الصلاة والسلام
ثم بين الله تعالى موقف بني اسرائيل من انبيائهم فذكر موسى وعيسى عليهما السلام فقال تعالى ( وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين(5)تؤذونني وانت تعلمون اني رسول الله اليكم هل هذا ما يستحقه الرسول صلى الله عليه وسلم منكم ان احسان الى عباد الله هو اعظم احسان بعد احسان الله عز وجل ما احسن انسان الى انسان كما احسنت الرسل الى اقوامها والله تعالى يقول { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } [الرحمن/60] فكيف تؤذى الرسل وكيف يضطهدون و يعذبون فضلا عن ان يقتلون ( وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم)والله عز وجل يقول { إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا } [التوبة/61] فلا تجوز اذية الرسول بالقول ولا بالفعل وما هي اذية بني اسرئيل لموسى عليه السلام اذيتهم كانت كثيرة متنوعة ولكن منها ما ذكره النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح ان موسى عليه السلام كان رجلا حييا ستيرا يستحي ان يرى الناس عورته وكان بنو اسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم الى بعض كما كان واقع الناس في الترع الى عهد قريب وكما هو واقع الناس الان في البحار على الشواطئ في الصيف فالناس ينزلون البحر عراة ينظر بعضهم الى بعض ويا ليت الرجال فقط بل الرجال والنساء على الشواطئ اليوم اشبه ما يكون كما ولدتهم امهاتهم لا يستر منهم الا السوءة المغلظة وهذا من شر ما ابتلي به الناس وصدق النبي عليه الصلاة والسلام عندما قال(لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وضراع بضراع حتى لو دخلوا جحر ظبي لدخلتموه)قالوا اليهود والنصارى يا رسول الله قال فمن القوم غيرهم نعم هم اليهود والنصارى سوف تمشون وراءهم وتقلدوهم في كل شئ حتى لو كان منهم من اتى امه علانية ليكونن منكم كذلك والعياذ بالله اذن فالحياء صفة من صفات الانبياء ومن صفات الملائكة فكان موسى حييا ستيرا فكان لما يغتسل يتدارى فقالوا ما يستتروا منا موسى الا لبرص في جلده او عاهة او أُدرى يعني مرض يصيب الخصية فتنتفخ فاراد الله ان يبرئه مما قالوا فبينما موسى عليه السلام يغتسل وضع ثيابه على حجر ونزل يغتسل بعيدا عن الناس فلما اغتسل وخرج لياخذ ثيابه اذا بالحجر يجري امام موسى فتبعه موسى وهو يقول ثوبي يا حجر ثوبي يا حجر لغاية ما وصل عند بني اسرائيل ورأوه وهو عريان احسن الناس خلقة فقالوا ما به من افة وما به من عاهة فلما رَأَوْهُ وقف الحجر فاخذ موسى ثيابه وضرب الحجر بعصاه فاثرت العصا في الحجر وهذا معنى قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها } [آل عمران/105]فبرئه الله مما قالوا وكان عند الله وجيه
(وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقسن(5)فلما مالوا عن الحق وانحرفوا عن الهدى واثروا العمى عن الهدى اضلهم الله تعالى ( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين)كما قال الله تعالى { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون } [البقرة/143
الهداية انواع من اهمها هداية البيان والارشاد والدلالة وهداية التوفيق اما هداية البيان والارشاد والدلالة فهذه وظيفة الرسل عليهم الصلاة والسلام وفيها قال الله تعالى { ولكل قوم هاد } [الرعد/7] يهديهم بعني يدلهم ويرشدهم هذا طريق الخير وهذا طريق الشر كما قال تعالى { وهديناه النجدين } [الأنعام/87] وقال تعالى { إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا } [الإنسان/3] هذه الهداية تكون على يد الانبياء وورثتهم من العلماء واما هداية التوفيق وهو خلق قدرة الطاعة فهذه بيد الله عز وجل ولذلك قال الله تعالى للنبي عليه الصلاة والسلام {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } [الشورى/52]ثم قال له { إنك لا تهدي مناحببت} [الأعراف/155] فاثبت له الهداية ونفى عنه اخرى ولا شك ان الهداية المثبتة غير الهداية المنفية فالهداية المثبتة هي هداية البيان والدلالة والارشاد والتعليم والتوضيح اما الهداية المنفية فهي هداية التوفيق الا ان الله عز وجل رتي هداية التوفيق على هداية البيان والارشاد والدلالة فمن قبل هداية الارشاد والدلالة من الله عليه بهداية التوفيق ومن رفض هداية الرسل ازاغ الله قلبه (فلما زاغوا ازاغ الله قلوبهم) لما رفضوا ان يهتدوا بهدي نبيهم موسى عليه السلام اضلهم الله كما قال تعالى عن ثمود { وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون } [فصلت/17]( فلما زاغوا ازاغ الله قلوبهم )فلما رفضوا الهداية التي على يد رسل الله اضلهم الله عز وجل { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } { جزاء وفاقا } [النبأ/26] {ولا يظلم ربك أحدا } [الكهف/49] { والله لا يهدي القوم الفاسقين } [المائدة/108]والفسوق معناه الخروج من الطاعة الى المعصية والخروج من الايمان الى الكفر{ والله لا يهدي القوم الفاسقين } [المائدة/10
[color=blue